القناعة وفوائدها والسبيل الى القناعة

ما هي القناعة

القناعة : صفة كريمة ، تعرب عن عزة النفس ، وكرم الأخلاق وإن من أهم أسباب الشقاء هو غياب القناعة ، فحين تغيب القناعة يزداد التسخط في الناس وعدم الرضا بما رزقوا . وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم ، ولا لباس يواريهم ، ولا مراكب تحملهم ،ولا مساكن تضمهم : إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء ، ولن يشبعهم شيء ، لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم في أمور دنياهم . 


ولا تبصر من هم تحتهم ، فيزدرون نعم الله عليهم ، ومهما أوتوا من نعم طلبوا المزيد ، فهم کشارب ماء البحر لا يرتوي أبدا . ومن كان كذلك فلن ينال السعادة أبدا ، لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء ، وهذا من أبعد الحال : ذلك أن أي إنسان إن كملت له أشياء قصرت عنه أشياء ، وإن علا بأمور فلت به أمور . ويأبى الله تعالى- الكمال المطلق لأحد من خلقه كائنا من كان لذا كانت القناعة والرضا من النعم العظيمة ، والمنح الجليلة التي تسعد أصحابها فهي رأس الغني وسبب الراحة . والقناعة : هي الرضا بما قسم الله والتعفف وترك السؤال . وقد ورد في تفسير قول الله عز وجل :
{ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنييحنه حياة طيبة}

المراد من الحياة الطيبة

أن المراد با ( حياة طيبة ) القناعة في الدنيا . قال تعالى : {ليرزقنهم الله رزقا حسنا}. يعني القناعة .
 وقيل في قوله :{ إن الأبرار لفى نعيم}هو القناعة في الدنيا .

وقال رسول الله (ﷺ) :
« القناعة كنز لا يفنى »
 فأن المرء قد تتوافر له نعم هي في ظاهرها تافهة ولكنها في باطنها خير جزيل .

 « من أصبح آمنا في سربه ، معافى في بدنه . عنده قوت يومه . فكأنما الدنيا بحذافيرها » أي من أصبح ينعم بالأمن في دياره وصحة في بدنه ولديه طعام يومه فقد جمع خير الدنيا .

قول احد الشعراء

وقال أحد الشعراء :
أفادتني القناعة كل عز ... وهل عز أعز من القناعه
فصيرها لنفسك رأس مال ..... .وصير بعدها التقوى بضاعه
تنل عزا وتغنى عن لئيم .......وترحل للجنان بصبر ساعه


وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته،ولا أن يسعى المسلم في الأرض بطلب رزقه . ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع ، بل كل ذلك مطلوب ومرغوب . وإنما الذي ينافي القناعة أن بغش التاجر في تجارته ، وأن يتسخط الموظف من مرتبته ، وأن يتبرم العامل من مهنته ، وأن ينافق المسؤول من أجل منصبه . وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو مع مبدأه رغبة في مال أو جاه . وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته . وأن يذل المرء نفسه لغير الله - تعالى - لحصول مرغوب . وليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق ، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له ، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا : لأن الخير له قد يكون عکس ما تمنى . وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مناقيل الذهب والفضة ، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال ، ولا أن تمسك يداه الملايين ، ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه وتملك عليه نفسه : حتى بمنع حق الله فيها ويمنع حق المحتاجين ، ويتكاسل عن الطاعات . وفرط الفرائض من أجلها . ويرتكب المحرمات من ربا ورشوة وكسب خبیث حفاظا عليها أو تنمية لها .

فوائد القناعة

إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا ومن تلك الفوائد

  1. امتلاء القلب بالإيمان بالله - سبحانه تعالى- والثقة به ، والرضى بما قدر وقسم وقوة اليقين بما عنده- سبحانه وتعالى- ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله - تعالى- قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئا . 
  2. شكر الله تعالى على نعمه - فمن قنع برزقه شكر الله - تعالى- عليه ، ومن لم يقنع قصر في الشكر ، وربما جزع وتسخط - والعياذ بالله- ولذا قال النبي - { كن ورعا تكن أعبد الناس . وكن قنعا تكن أشكر الناس}.
  3. الفلاح والبشرى لمن قنع : إذ قال رسول الله   (ﷺ) طوبى لمن هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا وقنع.
  4. الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات : كالحسد ، والغيبة والنميمة ، والكذب ، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة ، ذلك أن مايدفع إلى الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبا ما يكون الطمع في الدنيا أو دفع نقصها . فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم ، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا : لأنه رضي بما قسم الله تعالى له.وقال بعض الحكماء:«وجدت أطول الناس غما الحسود ، وأهنأهم عيشا القنوع» .
  5. حقيقة الغنى في القناعة : ولذا رزقها الله - تعالى نبيه محمدا (ﷺ) وامتن عليه بها فقال تعالى :{ووجدك عآئلا فاغنى} وذهب بعض المفسرين إلى أن الله - تعالى- جمع لرسوله الكريم له الغنائين : غني القلب ، وغنى المال بما يسر له من جارة خديجة وبما فتح عليه بعد خیبر وغيره وقد بين- (ﷺ) - أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال :{ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس } .وتلك حقيقة لا مرية فيها : فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولده ، ولو عمر ألف سنة ، يخاطر بدينه وصحته ، ويضحي بوقته يريد المزيد ! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس : وهو لا يجد قوت غده ! فالعلة في القلوب : رضى وجزا ، واتساعا وضيقا وليست في الفقر والغنى وقيل لبعض الحكماء : « ما الغنى ؟ » قال : « قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك » .
     إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ... فكل ما في الأرض لا يغنيكا .
  6. العز في القناعة ، والذل في الطمع : ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزا بينهم ، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد ؛ ولذا جاء في الحديث الشريف :
     {اشرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس} .
    قال أمير المؤمنين ( عليه السلام) من رضي من الدنيا ما يجزيه كان أي ما فيها يكفيه من لم يضر من الدنيا بما يجزيه لم يكن فيها شي يكفيه .
    والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغني عن الناس، وقنع بما عنده واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ .

قناعة النبي (ﷺ)

لقد كان رسول الله (ﷺ) أكمل الناس إيمانا ويقينا ، وأقواهم ثقة بالله - تعالى وأصلحهم قلبا . وأكثرهم قناعة ورضى بالقليل . وأنداهم يدا ، وأسخاهم إن الرسول (ﷺ) رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه ، وأباها بعد أن منحها . المال أنفقه ، في سبيله وقد قال (ﷺ) :
{ عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، قلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما . فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك : وإذا شبعت شكرتك وحمدتك }.

السبيل إلى القناعة

 التزام القناعة عسير على بني آدم إلا من وفقه الله للهدى وكفاه شر نفسه وشحها وطمعها- لأن بني آدم مفطورون على محبة التملك : ولكن مجاهدة النفس مطلوبة لتخفيف طمعها وتقريبها من الزهد والقناعة ، ولذلك طرق إذا سلكها العبد مع إخلاصه تحققت له القناعة بإذن الله تعالى ، فمن ذلك :

  1. تقوية الإيمان بالله تعالى ، وترويض القلب على القناعة وغنى النفس : فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب ، فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى ، وإن كان لا يجد قوت يومه . ومن كان فقير القلب ، فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما واحدا لرأي أن غناه في ذلك الدرهم ؛ فلا يزال فقيرة حتى يناله .
  2. اليقين بأن الرزق مكتوب منذ أن كان الإنسان في رحم أمه ، والعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.
  3. ندير آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب .ومنها قوله تعالی :{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ومايمسك فلا مرسل له من بعده}.وقوله تعالى : {وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده}.وقوله تعالى :{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}.وقوله تعالى:   {سيجعل الله بعد عسر يسر}.
  4. معرفة حكمة الله - سبحانه وتعالى- في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد : حتى تحصل عمارة الأرض ، ويتبادل الناس المنافع والتجارات . ويخدم بعضهم بعضا .وقال تعالى: {أهم يقسمون رحمت ربك القناعة نحن قسما بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون }.  وقوله تعالى :{ وهو الذي جعلكم خلف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما ءاتكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحیم}.
  5. أن نسأل الله سبحانه وتعالى- أن يرزقنا القناعة ،والإلحاح بالدعاء في ذلك فنبينا محمد (ﷺ) وهو أكثر الناس قناعة وزهدا . وأقواهم إيمانا ويقينا : كان يسأل ولأجل قناعته (ﷺ) فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش. 
  6.  العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاییس البشر من قوة الذكاء ، وكثرة الحركة ، وسعة المعارف ، وإن كان بعضها أسبابا ، إلا أن الرزق ليس معلقا بها بالضرورة . وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة وذكاء أو غير ذلك وأكثر منه رزقا فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه  
  7. وجوب النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا ، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها ، ولذا قال النبي (ﷺ) :
    {إذا رأى أحدكم من فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب }
     وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء ، ومن هو أقل منه في أشياء فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك ! وإن كنت مريضا أو معذبا ففيهم من أشد منك مرضا وأكثر تعذيبا . فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ، ولا تخفضه التبصر من هو تحتك ؟! إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاء ومعرفة وخلقا فلم لا تذكر من دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت ؟!  
  8.   الاقتداء بسيرة رسول الله (ﷺ) وال بيته الأطهار وصحبه الأخيار وتعرف أحوالهم مع الدنيا ،وزهدهم فيها ، وقناعتهم بالقليل منها ، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثارا للباقية(الاخرة) على العاجلة ( الدنيا ) : فإن معرفة أحوالهم ، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم ، وترغبه في الآخرة . وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة . 
  9.  العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة ، وقد قال النبي (ﷺ) :
    { لا تزول قدما عبد حتى يسأل : عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه}. 
  10. فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين : جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق . وهذا ما يجعل تبعته عظيمة ، وعاقبته وخيمة إلا من اتقى ا الله فيه وراعي حدود الله اكتسابا وإنفاقا . ثم ليتفكر في أ أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر ، وأسرع ، وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعا كثيرا ، فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتا طويلا لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفا ليس معه شيء . وحساب الآخرة أعسر ، والوقوف فيها أطول.

ولينظر ايضا

ولينظر أيضا إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه ؛ فهو يشفى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب . ثم يحمل هم الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتما مغتما . ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أقيل من منصبه ؟ وكم من شخص كان ذلك سببا في هلاكه وعطبه ! نسأل الله أن لا نكون من هؤلاء .

النظر في التفاوت

النظر في التفاوت اليسير بين الغني والفقير على وجه التحقيق ، فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله . وهو ما يسد حاجته . وما فضل عن ذلك فليس له . وإن كان ملكه . فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم نجد أنه لا يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر ما يأكل متوسط الحال أو الفقير ، بل ربما كان الفقير أكثر منه !! 

وبعبارة أخرى : هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد .أو مائة ثوب فيلبسها في آن واحد ، أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد ، أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد ؟! كلا : بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلا أو تنقص ، وللمستور كذلك مثله . وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلا أو تنقص . ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا مترا في مترين سواء كان قائما أم قاعدا أم مضطجا ، فعلا يحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك ؟!

فما اجمل القناعة

فما أجمل القناعة ! فمن التزمها نال السعادة . وما أحوجنا إلى التحلي بها ! ولو خلى بها الناس لزالت الضغائن والأحقاد . وحلت الإلفة والمودة : إذ إن أكثرأسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها ، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له .  

وصدق رسول الله (ﷺ)حينما قال :
( والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم )

ما تقدم ندرك أن القناعة سبيل إلى السعادة في الدارين الدنيا والآخرة .


قد تعجبك ايضاً :

انتهى الموضوع...
 شكرا لكم